خبيرٌ استراتيجي في الإصلاح الإداري والاقتصاد
أدّت الأزمة الاقتصادية المستمرة في لبنان إلى موجة من الهجرة، ممّا شكّل واحدة من أكبر هجرات الأدمغة في تاريخ البلاد الحديث. مع تدهور الفرص في الداخل، يتّجه المهنيّون ذوو المهارات العالية - من أطباء وأكاديميِّين ومصرفيِّين ومهندسين ومتخصّصين في تكنولوجيا المعلومات - نحو العمل في الخارج، خصوصاً في دول الخليج والبلدان الغربية. وبينما توفّر هذه الهجرة استقراراً مالياً للأفراد، فإنّ تأثيرها الأوسع على الاقتصاد اللبناني يتسبّب في إعادة تشكيل القطاعات ويهدّد جهود التعافي على المدى الطويل.
أحد أبرز القطاعات المتأثرة هو قطاع الرعاية الصحية. هاجر العديد من الأطباء والممرّضين إلى دول الخليج، ممّا ترك النظام الصحي اللبناني يعاني من نقص حاد في الكوادر. وتواجه المستشفيات صعوبة في الحفاظ على مستويات الخدمة، كما أنّ الضغوط الهائلة على العاملين المتبقين تؤدّي إلى تدهور جودة الرعاية الصحية، في وقت تتزايد فيه الأزمات الصحية بسبب الانهيار الاقتصادي.
إلى جانب ذلك، فإنّ أزمة الكهرباء والإنترنت تجعل بيئة العمل غير قابلة للاستدامة، خصوصاً في مجالات مثل تطوير البرمجيات والدعم الفني ومراكز الاتصال (call centers). وكان لبنان ليكون مركزاً إقليمياً هاماً لهذه الخدمات، لكنّ استمرار انقطاع الكهرباء وضعف خدمات الإنترنت دفعا عشرات خبراء تكنولوجيا المعلومات إلى الهجرة.
على سبيل المثال، غادر 150 خبيراً مع عائلاتهم إلى قبرص لدعم المصارف الدولية هناك. وفشلت الحكومة في إيجاد بديل باستخدام تقنيات حديثة مثل "ستارلينك" بسبب مخاوف أمنية، ممّا سمح لدول مثل الهند بالاستفادة من هذه الفرص التي كانت لتتمركز في لبنان. تعكس هذه الحالات تكلفة الفرص (opportunity costs) التي يخسرها لبنان في قطاعات البرمجيات ومراكز الاتصال.
قطاع التعليم، الذي كان تاريخياً من أقوى القطاعات في لبنان، يعاني أيضاً. وتشمل الهجرة المدرسين وأساتذة الجامعات وحتى المؤسسات التعليمية نفسها. كمثال، جامعة بيروت الأميركية (AUB)، التي كانت منارة للتعليم في المنطقة، اضطرّت إلى فتح حرم جديد في مدينة بافوس القبرصية. وجاءت هذه الخطوة لجذب الطلاب الأجانب الأثرياء الذين يخشون القدوم إلى بيروت بسبب عدم الاستقرار، بالإضافة إلى بعض الطلاب اللبنانيِّين الذين تُقيم عائلاتهم في دول الخليج. وتعمل الجامعة الآن على تطوير الحرم الجديد من خلال إنشاء أماكن سكن وخدمات للطلاب، ممّا يسلّط الضوء على الفجوة المتزايدة بين لبنان وهذه الفُرَص التعليمية. وتُظهر هذه الهجرة من التعليم والخدمات المرتبطة به إلى قبرص، بوضوح تكلفة الفرص التي يخسرها لبنان نتيجة الأزمة.
حتى بعض الوزراء والنواب السابقين، مثل جهاد أزعور والدكتورة منال عبد الصمد، تمّ توظيفهم من قِبل صندوق النقد الدولي، بينما انتقلت النائبة غنوة جلول إلى التدريس في جامعة سيدني للتكنولوجيا. كذلك، تمّ استقطاب كبار مستشاري الإدارة (management consultants) للعمل برواتب مرتفعة في شركات عالمية في الخليج، ممّا يعكس جاذبية الفرص الخارجية للبنانيِّين ذوي الخبرات العالية.
وعلى الرغم من أنّ هناك فائدة واحدة من هذه الهجرة الجماعية وهي التحويلات المالية التي يرسلها اللبنانيّون في الخارج، والتي أصبحت شريان حياة للعديد من الأسر، إلّا أنّها ليست حلاً مستداماً. يمكن أن يؤدي الاعتماد على التحويلات إلى خلق شعور زائف بالاستقرار، ممّا يؤخّر الإصلاحات الاقتصادية اللازمة ويؤدّي إلى استمرار دورة الاعتماد بدلاً من تعزيز النمو الحقيقي.
إنّ التعامل مع هجرة الأدمغة يتطلّب نهجاً شاملاً يتضمّن استعادة الاستقرار السياسي، تحسين البنية التحتية، وتوفير حوافز لبقاء العمال ذوي المهارات. كما يجب الاستثمار في التعليم والتدريب وتشجيع الابتكار وريادة الأعمال. لكن من دون إصلاحات جذرية، ستستمرّ هجرة الأدمغة، ممّا يؤدّي إلى مزيد من التآكل في القاعدة الاقتصادية للبنان.
ليست هجرة الأدمغة من لبنان مجرّد تحوّل ديموغرافي - إنّها أزمة اقتصادية بحدّ ذاتها. وتترك الأدمغة التي تغادر، وراءها فراغاً يصعب ملؤه، ممّا يضاعف من تكلفة الفرص الضائعة. إنّ استمرار هذا النزيف البشري يهدّد بتفاقم تدهور القطاعات الرئيسية مثل التكنولوجيا والتعليم والصحة، ممّا يجعل الطريق إلى التعافي أطول وأكثر تعقيداً.